إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 8 سبتمبر 2014

حين زرت الوطن (٢) ..

عادة السلام تلك لا أنكر أني تعلمتها سريعاً  ، ومارستها خلال زيارتي على أقربائي حين ألتقي بهم .. 

كانت محطة الزيارة  والمدينة التي أخذتني في 
أحضانها أولاً هي تعز ، بجوها المشابه للجو الذي أعتدنا عليه في الغربة . إنطلقنا من تعز لرحلة إستغرقت ساعة إلى  " الأصابح " حيث مسقط والدتي وبيت جدتي .. 
كان المنزل  كما كنت أسمع وأرى عن المنازل الريفية ، فلأول مرة أرى البقر والحمير وألامسهم ، ولأول مرة وآخرها أخوض محاولة فاشلة بحلب بقرة  ، ولأول مرة أشرب حليباً طازج  . وأرى مجالس القات للرجال والنساء ..!  
رأيت في تلك العطلة مالم أره في الغربة ، وماكنت أسمعه من زميلاتي في المدرسة . وأسأل أمي عنه ، كم خالة لدي، وكم عمة أملك ؟ أجدي  عائش ؟ لما لا يأتون إلينا مثل البقية ؟ لما لا نراهم ؟ لما فقط نسمعهم في شريط مسجل ونحادثهم أيضاً بشريط مسجل ..؟ بعودتي بددتُ كل تلك التساؤلات ، وأخذت أفرق بين العمة والخالة ، فكان لديّ إلتباساً في الألقاب  لأني لم أستخدها هناك قط .. و أشياء أخرى ، منها ممارست اللهجة والنطق بأريحية دون أن يستهزيء أحد بي .
 

لا أذكر كم لبثنا في تعز حينها ، لكن تنقلنا مابين منطقتين هناك هما " الأصابح - والتربة " ، حتى أتى موعد سفر آخر وكان هذه المرة  برفقة خالي متجهين لصنعاء ، لإستكمال باقي الزيارة .. 

تستعيد ذاكرتي بعض التفاصيل كطريق السفر بين تعز وصنعاء ، ومرورنا بمناظر خضراء بهية منها البركاني  حين كان مايزال يكتسي اللون الأخضر ووادي الضباب  والباعة الصغار على جانبيّ الطريق ، وشجرة الغريب قبل أن يتم وضع سور حولها .. طريق سمارة الذي مازال يحافظ على جماله ...  
 
 وصلنا إلى  صنعاء التي أستقبلتنا عصراً بجوها البارد ، وبمنزل خالتي التي أذكر أن أمي حكت لنا عن أبنتها الوحيدة المدللة  وكيف أننا سنكون أخوة لها لإقامتنا في منزلهم  . . 

عشت في صنعاء أيام أكثر من تعز ، وذكريات أعمق أحملها لليوم ، وأصبحت صديقة للكثيرات أراهم في كل زيارة  . 
فبساطة من هم هناك جعلوني أندمج سريعاً بالأجواء والمعيشة ، فلا تحتاج لتعامل مع الناس إلا أن تقاسمهم البساطة حينها ، أذكر ركوبي لأول مرة في باص التنقل ، وتعجبي الأخر كان أنه ليس هناك في الغربة باصات مثلها ، وإنقطاع الكهرباء بعد المغرب الذي لم أعتد عليه .
أذكر زيارتي لحديقة الحيوان والثورة والسبعين والوقوف في نفس المكان الذي التقط به صورة حين كنت أبلغ عام ..وزيارتنا التي بدأ مشوارها من السابعة صباحاً إلى دار الحجر .أذكر خالتي -رحمها الله- وتعلقها الشديد بي لدرجة أني كنت أبيت الليل في غرفتها .. 
أذكر دهشتي بالعدد الكبير من الأطفال المتسوليين في الشوارع والباعة الصغار .. وباب اليمن كأول مرة أزوره ..  

كاأشياء أول مرة أراها ،كان لها وقع فريد على قلبي ، جعلتني أرتبط حباً بها .. وشوقاً للعودة. 
كانت تلك الإجازة أصنفها الأجمل ، رسمت لي معنى أن تعيش مع الأهل ، الذين حرمنا من تواجدهم في الغربة ، معنى أن تنام وتأكل وتلعب في بيت خالتك .. معنى أن يدللك جدك ، وتغمرك جدتك بحبها .. معنى أن تكون محط أنظار الجميع بأنك المغترب الذي عاد .. ومحط أعجابهم بأناقتك التي أتيت بها ، معنى أن تشارك أشيائك مع أبناء خالاتك وعمتك لأنك تحبهم ، حتى قد تهديهم غرضاً يخصك كتذكار منك .. معنى كيف يكون طعم التعلق بالوطن ، وحبه والشوق للعودة له .. 
لكن بعد كل زيارة كنت خاسرة ، فخسرت بعد زيارتي الأولى جدي رحمه الله - وخسرت بعد زيارتي الثانية خالتي وإبنة خالي . رحمة الله عليهم .. 
وبزياراتي الأخيرة خسرت الوطن الذي زرته أول مرة ، خسرت إعجابي ودهشتي لأشياء جميلة ، وتحول الإعجاب لأشياء  مختلفة : كنقطة تفتيش قبيلة ، أو نقطة تفتيش لأتباع الحوثي - سيارة معلقُ بها عشرات الرجال المسلحين - تكدس القمامات - صوت إنفجارات - أو صوت رصاص إشتباك - أو منزل مر على جدرانه الرصاص فتركه مهدوم .. الخ من الأشياء التي يعايشها المواطن بشكل طبيعي وأراه أنا بتعجب  .. 

خسر الوطن الأمن والأمان والنظام ، وخسرت أنا الوطن الذي أدهشني قبل ثلاثة عشر عاماً .. 

حين زرتُ الوطن ..(١)


----- 
كثيرون من هم مثلي ، ولد بأرض غير الوطن ، وتربى وعاش بها ، دون أن يزور الوطن ، ثم فجأة قرر أهله زيارة هذا الوطن ، وأحيائه في عقله وقلبه .. من هو محظوظ هو من زاره ، ومن لم يزوه لن يعرف  طعم الوطن ... 
 
ببضع دقائق شيء دفعني للكتابة عن زيارتي لليمن كأول مرة أفهم فيها أن لي وطن إسمه اليمن .. 

-----  



لطالما كان الإنتماء والإعتراف بالوطن شيء مقدس لدينا في عائلتي  ، لكن لم أكن أفهم ذلك  ، فحين كنت صغيرة في الإبتدائي ، لم أعلم أني مختلفة إلا بالوقت الذي كان ينادى بإسمي لأخرج من الصف وأتلقى إشعاراً عليَّ إبلاغه لوالدي بشأن قرب إنتهاء موعد الإقامة ، كان الأمر يسبب لي حرج كباقي الفتيات العربيات .. 
بدأت المدرسة تريني إختلافي في الجنسية ، ومالميزات التي أحرم منها لكوني غير سعودية ، كانت المدرسة هي البيئة التي تغذي الطلاب بالعنصرية من الصغر .. بالتفريق بين الطلاب ، فهؤلاء أجانب ، وهؤلاء سعوديين .. 


حين كنا صغاراً إنقطع والديَّ عن السفر لظروف معيشتنا التي مررنا بها ، كان الإنقطاع عشرة أعوام أظنه ، حتى أتى موعد القيام بزيارة للوطن وكان عمري حينها ١١ عام .. 
لا أذكر قبلها اليمن فآخر سفرةٍ لها كنت أبلغ عام بقول والدتي ، التي ترينا صوراً ألتقطت لنا هناك أنا وأختي قبل أن تلد أخي ، مع أفراد كثر أجهلهم .. 

احدى الصور مازالت معي تشاركني الغرفة ، ألتقطت  في حديقة السبعين عام ١٩٩١ نقف أنا وأبي  وأختي بجانب سور الحديقة من الداخل .. 
لا أتذكر أي شيء عن زياراتي لها ، وحديث أمي عن تلك الزيارة هو ماكنت أحتفظ بهِ بجانب الصور .. 

بعد تخرجي من الإبتدائي .. وتخرج أختي من الإعدادي ، أخبرونا  أننا سنعود لليمن  في هذه العطلة ، ردة فعلنا كانت سلبية لم يتوقعوها ،كان رفضنا  أننا سنترك العيش هنا  لنذهب لليمن التي كانت مخيلتنا ترسمها على أنها بلد فقير جداً ليس فيه إلا جبال وأراضي زراعية ، ويخلو من رفاهية الحياة التي كبرنا عليها . 
كنت معهم أبكي وأرجوهم أن لا نذهب لكن كان حديث أبي يحاول أن يصحح لنا تلك الفكرة الباطلة التي في مخيلتنا محاولاً طرد الأشياء السلبية التي سمعناها عن اليمن .. 
حين بدأ التحضير لسفر بشراء الهدايا والملابس الجديدة ، والتسوق لأشياء كثيرة ، تغيرت ردة الفعل فأصبحت بدلاً من خوف  ، شوق للتعرف  وفرح .. 

أذكر أننا حين وصلنا لليمن لأول مرة ، وصلنا إلى تعز ، بوقت الظهيرة كان حينها الوقت حار ، والمكان مزدحم في موقف الباصات ، وكنت متعبة من عناء الرحلة التي كلفتنا ليلتان في الطريق .. 
قدِم  خالي الأصغر ليستقبلنا ، وكنت أجهله .. لم أره قبلاً إلا بصورة ولم أهتم بمن هو ، خالي كان أم عمي ! 

سلمّ علينا وكان أول ماتعجبت له  ، هو طريقة السلام التي جهلتها وراحت مخيلتي الصغيرة ترسم أن السلام بتقبيل اليد كما في التلفاز ، ولم أدرك أن باليمن عادة السلام لدى البعض بتقبيل يدك ويده بنفس الوقت .. .. 

- يتبع